سيدة الغناء وكوكب الشرق
===
لم أطرب أبداً لسماع سيدة الغناء وكوكب الشرق!!
البعض شخص حالتي بأنها فساد في الذوق، والبعض الآخر يعزوها لسوء التربية..
إذ لا يجوز لمصري وطني ألا يضع "الست" في المرتبة اللائقة بها قرب الشهداء والقديسين
فقررت مؤخراً أن أصلح من نفسي، وأن أزيل هذا الانفصام من شخصيتي، وأن أبدأ بداية جديدة.
مبدئياً.. كان من المستحيل أن أتعاطى تلك الأغاني الذي تكرر سيدة الغناء فيها الـ "كوبليه" 35 مرة..
وكان من العسير أن أحتمل صفافير وصراخ الجمهور المتواصل "تاني والنبي".. و"من الأول خالص"..
وكان من الصعب أن أستمتع بأغنية تبدأ الفرقة الموسيقية فيها العزف ثم
تتوقف عدة مرات لأن الأمور اختلطت على قائدها فلم يعد يعرف راسه من رجليه
ولا الخناقة مع الركاب رسيت على إيه.. يلف ويرجع، أم يمشي دوغري، أم يطلع
على القسم!!
فلجأت إلى تنزيل بضع أغانٍ من على الإنترنت هي تسجيلات "ستوديو".. بدون جمهور!!
فكرة رائعة حلّت معظم المشاكل.. لا إعادة كوبليهات.. ولا صراخ.. ولا صفافير..
وكإنسان ظفر بفرصة جديدة في الحياة، بدأت بنفس صافية وعقل مفتوح تجربتي في
الاستماع والاستمتاع بكوكب الشرق وإعادة اكتشاف كنوز أغانيها..
وبعيداً عن اختلاط بعض الحروف لديها بشكل يضرب القصائد الفصحى في مقتل
كاختلاط حرف الثاء بالسين، والذال والظاء بالزين (على الرغم مما أشيع من أن
سيدة الغناء حافظة لكتاب الله)..
وبعيداً عن اختلاط حرفي السين بالشين لديها في الفصحى وفي العامية فيصعب التفريق بينهما..
فقد وجدتني أطرب بالفعل لأغاني أم كلثوم!!
ألحان جميلة عذبة قادمة من ذكريات الطفولة المبكرة منذ نصف قرن من الزمان
في كل شارع وكل مطعم وكل محل وكل مقهى ومن مذياع مكروب يتناسى همومه، أو
وحيد يؤنس وحدته.
لا يمكن مثلاً أن أنسى الحلاق الذي يصدح مذياعه
دائماً بأغاني أم كلثوم، أقول "دائماً" ولا أدري من أين كان يأتي بها قبل
انتشار أجهزة التسجيل.. فتراه –ورأس الزبون بين يديه والمقص يطقطق بلا توقف
بين أصابعه- يتمايل يمنة ويسرة معرباً عن شديد نشواه بإبداع "الست" في جمل
معينة.. أو يتأوه أحياناً على آهاتها في جمل أخرى.. بل وكانت الجلالة
تأخذه أحياناً فيغمض عينيه ويذهب فيما يشبه الغيبوبة لثانية أو اثنتين
انتظاراً للـ Climax بتاع الكوبليه، وهنا كان مكمن الخطورة، حيث كان ذلك
كله يتم وأصابعه لاتتوقف عن طقطقة المقص بشكل عصبي.. وعلى بعد مليمترات
قليلة من شحمة أذن الزبون!!
ألحان عظيمة لفطاحل الملحنين هي مزيج
رائع وبديع من الحضارة الموسيقية الشرقية والغربية، بل ومنها فالسات قد
يعجز عن الإتيان بمثلها أهلها وعزوتها أنفسهم من أحفاد شوبان وموتسارت.
وعلى الرغم من ذلك فلا أنكر أن وسط كل تلك الألحان الإبداعية الرائعة،
كانت هناك بعض الكوبليهات والجمل الموسيقية الهزيلة و"الواقعة" والتي تعبر
عن مراهقة موسيقية لاتليق بقامات ولا بمقامات أصحابها، ربما كان الملحن
منهم يصل في بعض الأحيان إلى درجة من الملل أو يعاني خفوت الإبداع أو هروب
النغمة، فيعهد لأي من الموجودين في البيت بإكمال ما غمّ عليه من اللحن!!
القصائد الفصحى في أغاني أم كلثوم كانت في معظمها أسطورية (أقول في
معظمها!) وقصائد العامية كان منها الرائع ومنها المقبول ومنها الهايف
البدائي..
ومابين شديد إعجابي بمعظم الألحان وشديد احترامي لمعظم
القصائد، نظرت حولي فلم أجد سيدة الغناء العربي في هذا كله.. اللحن
للملحن.. والقصيدة للكاتب.. وهذا كل شيء!!
ربما يجب أن أحاول مرة أخرى.